14‏/9‏/2014

العراق - حكومة عتبة انتقالية للأجندة الأمريكية


ها قد تشكلت الحكومة العراقية بشكلها الأساسي ورغم بعض التعتيم، فشكلها العام واضح تماماً ويمكن تحديد مهامها الأساسية من طبيعة شخوصها والظروف التي أحاطت بتشكيلها.
وأول العلامات المميزه لهذه الحكومة نجاح الإدارة الأمريكية بفرض عملائها من أصحاب الفضائح على التشكيلة وأبرزهم أياد علاوي الذي أنيط به منصب نائب رئيس الجمهورية وعادل عبد المهدي الذي تم تسليمه النفط العراقي، كما تم تسليم وزارة المالية لشخصية كردستانية واستلم وزير الخارجية السابق، هوشيار زيباري، الذي حرص أن تكون سياسة العراق ومواقفه مرضية لإسرائيل وأميركا، وكان يمثلهما بأكثر مما يمثل العراق في المحافل الدولية، منصب نائب رئيس الوزراء، وإبقاء منصب رئيس الجمهورية بيد كردستاني لا يخجل من المراوغة ليتجاوز الجزء "الشيوعي" الصغير من تاريخه!

أما الظروف التي صاحبت تكوين الحكومة فتبرهن للعراقيين أن الإنتخابات لا تعني شيئاً وأن أصواتهم لا تعني شيئاً إن لم تكن خياراتها ضمن إطار المخطط الإسرائيلي الأمريكي للعراق، كما انها تريهم هشاشة الإرادة والموقف لدى ساستهم ومؤسساتهم وأن كل التأييد والدعم الشعبي والضجة التي تحيط بأي شخص أو حزب يمكن أن تطير بنفخة أمريكية واحدة. وهذا كله فشل ذريع يتحمل الشعب العراقي ومثقفوه وزره تماماً، لكننا لن ندخل هنا في هذه التفاصيل.

إن لم نرد أن نخدع أنفسنا عن رؤية الحقائق المهولة التي تتكون حولنا، فكل الحقائق تشير إلى أن التحالف الأمريكي الإسرائيلي لا يضع أي هدف أمامه أقل من تحطيم وتمزيق العراق والتهام نفطه وتحويله إلى دولة خليجية لإنتاج فرق الإرهاب الأمريكية الإسرائيلية (مثل داعش والقاعدة، والنصرة ، وكلها أسماء لفرق عسكرية إرهابية إسرائيلية من مجندين من المسلمين غالبيتهم من الدول التي تحظى إسرائيل أو أميركا فيها بمكانة خاصة تتيح لها اختراق مؤسساتها الدينية والعسكرية والأمنية) ضد الباقين من دول العرب والعالم التي يستهدفها هذا الخندق الذي يلعب ذيله الكردستاني دوراً أساسياً ومتزايداً في تحقيق هذا الهدف في العراق. وفي تقديري أن هذه الحكومة ليست بالضبط الحكومة التي يهدف اليها، وأن العبادي ليس سوى "دكة" سوف يصعد عليها عميل أكثر طاعة لإسرائيل، لكنها خطوة كيرة في ذلك الإتجاه.

فهاهي كردستان تستولي على وزارة المالية التي لم تخف طموحها إليها منذ سنوات عديدة، والمهمة في ادامة وتطوير عمليات الإبتزاز للحكومة المركزية ونهبها لصالح هذا الخندق، وهي السياسة الأساسية في كردستان، كما أنها مهمة جداً للدفع بالعراق أكثر وأكثر نحو بئر سياسة السوق والخصخصة المدمرة وبحدود سياسة اقتصادية ليبرالية شديدة التطرف تتجنبها أميركا وأوروبا ذاتها، وتتركها لضحاياها من دول العالم الثالث، خاصة تلك الدول التي يهم إسرائيل أن لا تقوم لها قائمة، وأن يبقى أبناءها تحت رحمة القرار السياسي الأمريكي الإسرائيلي بلا مقاومة، والعراق ليس سوى المثال الأحدث على ذلك النهج المدمر من أمثلة كثيرة.

إن تسليم شخص مثل عادل عبد المهدي ملف النفط فهي من أخطر الإنتصارات الأمريكية على الشعب العراقي في الصراع على ثروته النفطية ولا يشك إلا أحمق بأن اتفاقاً لا بد أن تم عقده مع "الرجل"(؟) لإقرار قانون نفط الشركات (التي كانت تطالب به منذ الإحتلال، وبشكل خاص عن طريقه ذيولها في كردستان وذيول ذيولها (ذيول كردستان – اليسار العراقي الضائع وقائمة التحالف المدني المليئة بالمشبوهين وشخصيات أخرى متناثرة، وهي تردد جميعاً هذا المطلب دون أن يكون أي منها قد قرأ القانون، فليس مطلوب من الذيول أن تقرأ).
وعادل عبد المهدي، صاحب فضيحة سرقة بنك الزوية من قبل حراسه الشخصيين وتهريبهم، كان دائماً رجل أمريكا الثاني بعد أياد علاوي، فهو من أكثر الشخصيات استعداداً لأي شيء لإرضاء الأمريكان، وقد فضحناه في حادثة كشفت حقيقته في مقالة “متى يعترض عادل عبد المهدي ومتى يقبل؟” (1)
إضافة إلى ذلك، فأن حقيقة تقافز عبد المهدي بين البعث والشيوعية والإسلامية، لا يسهل تفسيره إلا بأنه لم يكن يؤمن بشيء، وأنه كان أحد جواسيس السي آي أي لاختراق الشيوعيين، وما اكثر هؤلاء في العراق وفي العالم. هذه المهمة تتناسب تماماً مع شخصية الفضيحة التي أشرنا إليها في المقالة المذكورة أعلاه... وهذا كله يعني أن ملف النفط والصراع الذي خاضه أخيار الناشطين العراقيين ووزارة النفط والشهرستاني من جهة ضد الشركات وكردستان ونوابها والمؤيدون المقسمون على الولاء لها مهما فعلت، والنواب العملاء في لجنة النفط والطاقة البرلمانية من الجهة الأخرى، والذي تكلل بالنجاح، وتم ردع عقود مشاركة الإنتاج و فرض عقود الخدمة، هذا النجاح قد ضاع بضربة واحدة باستيلاء عبد المهدي على ملف النفط، ولاشك إننا سنشهد تغييرات حادة في هذا الملف في الأسابيع والأشهر القادمة.

وماذا يعني أياد علاوي كنائب لرئيس الجمهورية؟ أن خير طريقة نفهم بها أهمية أياد علاوي للأمريكان وإصرارهم عليه هو مراجعة مقالة نيويورك تايمز التي تحدثت عنها في مقالتي المعنونة "نيويورك تايمز تكشف كيف يختار لنا أصدقاؤنا زعماءنا" (2) والتي نشرتها قبل سنتين بالضبط، وجاء فيها:
"في مقال بعنوان "انسحاب أميركا من العراق، جهود فاشلة وتحديات"،(1) نقلت مجلة نيويورك تايمز....مقاطع من كتاب "نهاية اللعبة: الصراع من أجل العراق، من جورج بوش إلى أوباما" للكاتبين ميشيل كوردون والفريق الركن المتقاعد برنارد ترينر....
في الجدل حول توزيع المناصب في الحكومة العراقية... كان بايدن قد فضل خطة تتمثل بـ "إبقاء" المالكي رئيساً للحكومة (!)، على أن يكون لمنافسه الأساسي السيد علاوي، مكان قرب قمة هرم السلطة! ولأجل إفساح الطريق للسيد علاوي إقترح بايدن (حسب محضر المؤتمر) بأن يزاح الكرد عن الرئاسة، وأن يعطى طالباني منصباً آخر....وإقترح نائب وزير الخارجية جيمس شتاينبرغ خطة أخرى، بأن يستبدل المالكي بـ "عادل عبد المهدي"!
وأخيراً وبسبب القلق على الحاجة إلى تشكيل حكومة عراقية، قرر أوباما أن "يقبل"! بالسيد المالكي كرئيس للوزراء، على ان يعمل في نفس الوقت على صفقة تجلب السيد علاوي واعضاء آخرين من كتلة العراقية، إلى الحكم. ثم يشير الكاتب إلى أن الرئيس اوباما قام بنفسه بالإتصال بجلال الطالباني في الرابع من تشرين الثاني 2010، واستخدم كل قدرته على الإقناع، ليطلب منه طلباً غير معتاد، وهو ان يتنازل عن منصبه! وكانت الخطة أن يقدم هذا المنصب لأياد علاوي، لكن جهده لم يثمر. ويذكر الكاتب أن أوباما كتب رسالة إلى البرزاني محاولاً إقناعه بأن على الطالباني أن يقبل بالتنازل عن الرئاسة، وقال أن أميركا ستستمر بالدعم الذي تقدمه للكرد، ولكن السيد برزاني رفض الطلب."

والآن نرى الخطة الأمريكية تنفذ بحذافيرها، وتملأ المناصب العراقية بشخوص ترفع شهادات حسن السلوك الصادرة من جحور مراكز الدراسات الأمريكية. ومن هنا تأتي أهمية تلك المقالة التي تشرح التفضيلات الأمريكية وكذلك طريقة تعامل أميركا مع العراق. وتذكر المقالة أيضاً أن الكرد بلسان فؤاد حسين كانوا يحتجون على عدم وقوف الحكومة الأمريكية مع "مصالحها" (!) ومن يخدم مصالحها بشكل كاف!! والآن يبدو أن كردستان راضية عن مستوى دفاع أميركا عن "مصالحها" في العراق، وأن ساسة كردستان وذيولهم، هم من يمثلون تلك المصالح، وباعترافهم!

 إن وجود علاوي في "مكان قرب قمة هرم السلطة " كما كانت خطة بايدن بالضبط، يعني أنه سيكون الرأس الحقيقي للهرم، أي الرجل الأول في العراق، وسوف يدعم وستوجه دعوات البيت الأبيض إليه أكثر من رئيس الحكومة ومن رئيس الجمهورية أيضاً. وهو ذات ما حدث عندما كان علاوي رئيساً للحكومة فكان هو من يستدعى ويهمل رئيس الجمهورية، وحين تبدلت رئاسة الحكومة إلى الجعفري غير المحبوب أمريكياً، كان الدعوات الأمريكية توجه إلى رئيس الجمهورية دائماً. فرغم أن معصوم، الكردستاني الذي يحرص تملقاً للأمريكان، على التنكر لبعض تاريخه، ليس مرفوضاً أمريكيا بالتأكيد، لكنه لا يمكن، ولا يستطيع أن يكون بقيمة أياد علاوي بالنسبة لأميركا وإسرائيل. فعلاوي يمتلك كل الصفاة التي ترشحه ليكون رجلهما المفضل، والذي وصفه أحد رجال الأمن الأمريكان يوماً بقوله: إنه سافل، لكنه سافلنا! والسفالة هي الصفة الأساسية المطلوبة في المنافسة على الرضى والخيار الأمريكي لرجالهم في العالم الثالث، وخاصة في العالم الإسلامي والعربي لأنها الشخصية الوحيدة التي تستطيع أن تقبل المخططات االإسرائيلية التي تتبعها أميركا للعراق، وتنفذها بلا اعتراض.

لكن السفالة لا تكفي لوحدها للوصول إلى القلب الأمريكي، خاصة وأن السفالة الشائعة في الوسط السياسي العراقي تتيح لهم إضافة شروط أخرى لمرشحهم. وهنا تلعب صفاة أخرى دورها مثل “قابلية الشخص على أن يتم ابتزازه عند الحاجة”. أي أن الصفة الثانية المهمة للمرشح لرئاسة الحكومة لتمثيل المصالح الأمريكية، أن يكون لدى السي آي أي ملفات وأفلام كافية لتهديده أو تحطيمه أو إزاحته بسهولة إن تطلب الأمر، أي عندما تأتي مرحلة متوقعة، تطالب فيها اميركا من هذا المرشح بعمل يتجاوز موضوع تحطيم البلاد إلى التهديد بتحطيم ممثل أميركا فيها شخصياً أو خسارته لمنصبه. فالأجندة الأمريكية الإسرائيلية تريد أن تضمن ولاء المرشح إلى ما هو أبعد من الحدود البعيدة التي يضمنها انحطاطه الأخلاقي، الذي يقف عند حدود مصالحه الشخصية.

 ولا تجد اميركا مشكلة كبيرة في هذه النقطة أيضاً، ولا شك أنها تمتلك احتياطاً كبيراً من ساسة العراق المخترقين بملفات وأفلام خطيرة، ويمكنها أن تختار من بينهم من يناسبها، من القابلين بالإزاحة باللين(كما في أمير قطر أو المالكي) أو بالمجابهة إن تطلب الأمر. لكن مما لا شك فيه أن لا أحد يتفوق على أياد علاوي صاحب "قطار الفضائح الطويل" (3)(4) في عدد وقوة تلك الملفات التي تدينه وتحطمه عند الحاجة.

وتبقى هناك نقطة أخرى لعلها أهم نقاط تفوق أياد علاوي وإصرار الحكومة الأمريكية عليه دون منافسيه على منصب الذيل، هي ميزته الثالثة، وهي أن يكون "مقطوع من شجرة". أي أن لا يكون وراءه حزب حقيقي ورفاق حقيقيين، وهي تفضل ذلك حتى على من كان هو وحزبه ورفاقه أمريكيي الهوى (مثل أحزاب كردستان والأحزاب السنية والمجلس الأعلى)، فهي تعلم تماماً أن هذا "الهوى" قد يتغير، أو قد لا يتحمل مشاريعها التحطيمية حتى النهاية، وهي لا تريد أن يكون هناك "زخم" حزبي يضغط على “رجلها” ، ويضطرها إلى بذل الجهد من أجل إقناعه أو الضغط عليه لتنفيذ مشاريعها في أطوارها الأكثر فضائحية. إنها لا تفضل رجلاً قد يتعذر يوماً بأن هذا الموقف “سيجعله عرضة للهجوم من رفاقه” أو حزبه، وبالتالي، وإن كان لا مفر من وجود هؤلاء "الرفاق" فيجب أن يكونوا من الخانعين تماماً لإرادة قائدهم – رجل أميركا. ونحن نعلم أن رفقة أياد علاوي قد تمت تصفيتها مع الوقت وخلت من اي رجل يخجل أو إمرأة تخجل من أن "يدار بالتلفون من عمان"، وبالتالي فتبعية أياد علاوي نظيفة من أي أثر لإحساس بكرامة قد تزعج أو تعرقل تنفيذ الإرادة الأمريكية والإسرائيلية يوماً ما، حتى في أقصى مراحلها المحرجة صراحة وافتضاحاً في أذيتها.

ويمكننا أن نلاحظ هنا، أن الفارق بين علاوي والمالكي الذي تمت إزاحته، قد يكون في هذه النقطة بالذات. فالمالكي بالتأكيد ليس رجلاً نظيفاً، وقد أعتمد الكذب والمراوغة لخداع شعبه بشكل مكثف لتمرير الإرادات الأمريكية الكردستانية المرة بعد المرة، وكلف العراق أموالاً هائلة تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، منحها بتنازلات ليس لها أي معنى إلى الذيل الكردستاني أملاً في رضاء الخندق الأمريكي الإسرائيلي عنه. لكن المالكي وصل إلى منصبه من خلال حزب حقيقي، مازال في قيادته البعض ممن يستطيع أن يرفض أو يقول لا، وكان على المالكي دائماَ أن يجد طريقاً بين الإرادة الأمريكية وإرادة هؤلاء الرفاق “المزعجين”. ورغم تحيزه الشديد للإرادة الأمريكية، واكتفائه بإرضاء "الرفاق" والشعب بالعبارات الإعلامية الرنانة الفارغة، فإنه لم ولن يستطيع أن ينافس من يكون حراً تماماً من تأثير الرفاق في تنفيذ ذلك التحيز، وأن يكون مثلاً بصلافة تنافس صلافة مثال الآلوسي في علاقته بإسرائيل ومؤسساتها الأمنية والعسكرية حين يتطلب الأمر.
كما أن وجود هذه الرفقه الخارجة ولو بشكل ضئيل عن الإرادة الأمريكية المباشرة، يجعل من الممكن للمرشح لمنصب الذيل أن يستعين بها مستقبلاً إن تطلب الأمر، لرفض تنفيذ الأوامر الأمريكية حين تصل المرحلة التي قد يرى فيها تهديدا شخصياً له. لقد وجد المالكي في نفسه القدرة على أن يهدد السفير الأمريكي بالطرد، عندما وصل تدخل ذلك السفير في انتخابات سابقة، إلى تهديد فرص المالكي وحزبه في الوصول إلى الحكم. كذلك وجدنا أميركا تضطر لإيفاد جون كيري إلى المالكي وحزبه للضغط عليهما من أجل دعم داعش في سوريا (قبل أن تدخل داعش العراق بشكل كبير) رغم أن داعش كانت تهدد العراق بشكل صريح. وقد رفض المالكي وحزبه ذلك الضغط، واكتفيا بموقف حيادي من المعركة (التي كان يفترض في العراق أن يلقي بكل ثقله في الجانب السوري المعادي لداعش والحكومة الأمريكية)، ومثل هذا "الحياد" من ذيلها، يمكن قبوله مرحلياً فقط بالنسبة لأميركا وإسرائيل. وقد عبر عن هذا الموقف الأمريكي الرافض للحياد، ممثل أميركا في العراق، وزير الخارجية السابق هوشيار زيباري، عندما كان يصرح بالعكس تماماً من تصريحات "رئيسه" فيقول، "إن العراق لن يقف على الحياد" بين الشعب السوري واعدائه (أي الحكومة السورية – وجهة النظر الأمريكية الإسرائيلية). اليوم نرى العراق يشارك تحالف "محاربة الإرهاب"، رغم أن ذلك التحالف لا يتكون إلا من ذات العصابة التي خلقت ودعمت وتدعم "داعش"، التي قلنا انها ليست سوى فرقة إرهابية إسرائيلية من المجندين المسلمين.

لقد كانت فترة المالكي مدمرة للعراق وثرواته واستقلاله، وقد هيأت الوضع للمرحلة القادمة التي تتطلب سرعة أكبر في تنفيذ المشاريع الإسرائيلية للبلد وتجزئته، وبالتالي فقد كان المالكي باستسلامه وانبطاحه (في الغالبية الساحقة من المواقف) للضغوط الأمريكية، يحفر قبر حكمه، ويهيء الظرف لمن سيأتي بعده والذي سيكون أكثر انبطاحاً منه وأقل ضجيجاً. لقد أسهم المالكي بشكل كبير جداً في تحطيم العراق بموقفه السلبي الذي ترك لأعداء الشعب الفرصة كاملة ليسلبونه المزيد من ثرواته وسيادته وزرع اليأس فيه وزيادة انشقاقه وتثبيت فقره وتطبيع الكثير مما هو غير طبيعي وجعل ما كان مرفوضاً، مقبول، وزاد من سلطة الفساد في المؤسسات العراقية بشكل كبير، فدعم فساد القضاء وأسهم فيه واستفادة منه، فمنع التحقيق مع اللصوص مثل وزير الشباب، ذلك اللص المفضوح تماماً، وأسهم كما فعل سلفه صدام حسين في تثبيت روح الأناينة وعدم الإحساس بالشرف والوطن وإعطاء الصورة للمواطن بأن "الجميع لصوص" و "كذابين"، ليكون هذا المواطن لصاً آخر معهم، وسمح للطائفية أن تتركز وتثبت دون أن يتخذ أي إجراء لردعها، واكتفى بالتصريحات الإعلامية المضادة لها، كما لعب دوراً أساسياً في تهريب وإفلات ضباط الجيش العراقي العملاء لأميركا من القصاص بعد قيامهم بخياناتهم الصريحة وتسليم المدن الكبرى بلا مقاومة إلى داعش. كذلك أسهم “الرجل” بإدامة الإرهاب وتركه يأخذ مجاله الكامل، ليس فقط بشراء أجهزة كشف المتفجرات المزيفة ، بل والوقوف في صف من فعل ذلك وإدامة بقاء استعمالها حتى بعد أن كشفت فضيحتها وأدانت بريطانيا مصنعها بالإحتيال!

لكن المالكي رغم كل ذلك كان حريصاً أن يظهر بمظهر "الحيادي" بين شعبه و الإرادة الأمريكية الإسرائيلية المدمرة له ككيان مستقل، ولعل خير مثال على ذلك موقف المالكي من تمديد القواعد العسكرية الأمريكية حين كان يهتف: "إن وافقتم فسوف أوافق"، والذي يشرح بوضوح حال صراع الضغوط التي كانت تسلط على المالكي في ذلك الوقت. إنه موقف غير مشرف بالتأكيد، ولا يمثل القائد الذي يأمل به أي شعب، لكنه أيضاً ليس الموقف الذي تأمله أميركا من ذيولها "المطلقة"، والمتمثل بأن يلقي هذا الذيل كل ثقله في الجانب الأمريكي من معركة الصراع مع الشعب العراقي، وهو الموقف الذي يمكن لأميركا أن تنتظره بلا شك لو كان علاوي أو عادل عبد المهدي أو من هو مثلهما، على رئاسة الحكومة.

إن فهم هذا الجانب من حقيقة ما يجري، يزيل صعوبة فهم موقف بعض المعترضين على المالكي ومنتقديه. فالكثير ممن انتقد المالكي لم يكن يفعل ذلك من أجل إصلاح الحال، بل زيادة سرعة تدميره للبلاد، مثل اانتقادات التحالف الكردستاني ومثال الآلوسي ومعظم الشلة التي التأمت في ما يسمى بالتحالف المدني الديمقراطي من طامعين وإسرائيليين ويساريين تائبين وطيبين متفائلين إلى درجة الحماقة، والتي لا تجد ما تطالب به من أهداف سوى ما تملي عليها كردستان من مطالب دون حتى قراءتها، مثل إقرار قانون النفط الذي تريد الشركات فرضه على العراق، أو المطالب الكردستانية المباشرة الطامحة إلى المزيد من الإبتزاز للشعب العراقي.
ولا ننتظر من رئيس الحكومة الحالي إلا السير في هذا الطريق، وقد بدأت علامات ذلك الإتجاه بالفعل، إن نجحنا بحل شفرة الخطاب السياسي للعبادي.

ففي أول خطاب له وعد رئيس الوزراء الجديد أن "يحل جميع المشاكل" مع الإقليم، وهنا يجب أن نضع علامة استفهام مهمة: كيف يستطيع مفاوض أن يعد بحل جميع المشاكل، وهي رهن بمدى تعاون الطرف الآخر الذي لا سلطة له عليه؟ قال العبادي أنه سيتعامل "بروح إيجابية"، مما يفهم منه أنه يعتبر ان المالكي لم يكن "إيجابياً" في السعي للحل، بينما نرى نحن أن المالكي لم يكن إيجابياً فقط بل كان منبطحاً لكردستان وسلمها عشرات المليارات من خزينة العراق ووافق في النهاية على كل ابتزازاتها تقريباً، (حتى قصة قطع الرواتب كذبة قصيرة الزمن تطلبها الموقف الإنتخابي كما لدينا من معلومات قد نضمنها مقالة قادمة) فما الذي يقصده رئيس الحكومة الجديد بـ  "الإيجابية" التي يضمن من خلالها "حل جميع المشاكل" وهو ليس سوى طرف واحد من أطراف اللعبة؟

لو قال لاعب شطرنج أنه سوف ينهي دستاً بسرعة، لفهمنا أنه لا بد أن يقصد انه سيستسلم، لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يقرره لوحده دون انتظار موقف الجهة المقابلة، لإنهاء صراع الدست. وبنفس الطريقة فإن وعد المفاوض بأن المفاوضات ستنتهي بالإتفاق، فلا يعني ذلك إلا أنه سيوافق على شروط الطرف الآخر كلها. وبالتالي فإن ترجمنا عبارات حيدر العبادي الملتبسة إلى كلام مفهوم، فإنه يعد بتقديم تنازلات كبيرة إلى كردستان تفوق ما قدمه لها المالكي حتى الآن، وبالحجم الذي يعلم أنه سيرضي كردستان. وهذا أمر متوقع فلا يمكن أن تسعى كردستان لاستبدال المالكي بشخص آخر ما لم تكن قد اتفقت معه (وبتنسيق أمريكي) على قبول ابتزازات محددة تزيد عن ما قبله المالكي، وأن كل "المفاوضات" ليست سوى مسرحية تجس نبض "المشاهدين" وهي تتقدم في مشاهدها الضرورية للحبكة النهائية المخططة، رغم أن الممثلين قد لا يبلغون بكل التفاصيل الصغيرة لأدوارهم مسبقاً، وهو ما قد يثير بعض التوترات المتناثرة بين الحين والآخر، والتي سوف يعجز المشاهدون عن تمييزها عن ما هو تمثيل كامل.

الشيء الآخر المهم الذي نفهمه من كلام حيدر العبادي، هو انه قد قرر اتباع ذات أسلوب المالكي المميز بالكذب على الشعب ومراوغة الكلمات لإعطاء قراراته التي خطط لها أن تبيع بقية العراق لمحتليه ومبتزيه، معنى يبدو "إيجابياً". وربما يكذب العبادي ويراوغ لأنه يتوهم أنه بصدد حالة عابرة لا مفر من إرضاء الأمريكان وكردستان فيها، لتمرير صعوبات تشكيل الحكومة وتثبيت منصبه، لكنه سيكتشف سريعاً أن تلك الحالة "العابره" هي القاعدة الثابتة الدائمة، وأن ضغوط الإبتزاز لن تنتهي ولن تخف، وأن التنازلات للإبتزازات لن تنتج سوى المزيد من الضغوط من اجل ابتزازات جديدة. ولو كان للعبادي أن يرى وسط ضباب السلطة الجديدة المخدِّر، لرأى أن سلفه قد عاش كل حياته السياسية في حالة "عابرة" من “الإبتزاز المستمر” المتزايد لأميركا وكردستان وانتهت به إلى هذه النهاية المثيرة للشفقة و الإستهجان. ولو راجع مواقف أميركا من المالكي وأعاد رؤية الأفلام التي تودد إليه بها مبعوثي الأمريكان وحجم وعودهم له ونفخهم برأسه سواء مباشرة أو من خلال بقية امتداداتهم مثل ممثلة الإتحاد الأوروبي هيباشكوفا التي وصل بها الأمر أن تعامله كالأطفال حين تقول له أنها تنتظر منه أن "يقود العالم" في حربه على الإرهاب، وهي تعلم أن شرطياً صغيراً في الناتو يعرف عن الإرهاب أكثر مما يعرف المالكي وكل "حبربشية" مستشاريه السمان. لو كانت رئيسة جمعية الصداقة الأوروية الإسرائيلية هذه ترى أن أمامها شخصاً سوياً لترددت في الكلام معه بهذه الطريقة، لكنها تعلم أنها أمام شخص طبخت السلطة عقله، وصار يصدق أنه قائد عظيم وأن مواهبه أتاحت له أن يأمر قادة جيشه بأن "يفعلوا العكس مما كانوا يفعلون" فانتصروا في المعركة! وأن إبنه الكراندايزر وريث تلك العبقرية والشجاعة غير الطبيعية!

كتبت في عام 2008 مقالة بعنوان المالكي وسيناريو السادات(5) محذراً المالكي من أن التنازلات للجانب الأمريكي سوف تستخدم في النهاية ضده، ومن قبل ذات الجهة التي تضغط عليه لتقديمها إليها، وأنه قد يكون ضحية خطة السادات الأمريكية الإسرائيلية، والتي تمثلت بالتخلص من الأخير بعد أن قام بمهمته في تحضير الوضع المصري لمهمة عميلهم المباشر والصريح حسني مبارك، والذي يريد ويستطيع أن يلقي بكل ثقله وراء تلك المشاريع بلا مناقشة أو ضوضاء. ويبدو أن ما حذرت منه قد تحقق اليوم، وإن كان "أغتيال المالكي" قد تم بلا عنف.

إن ما ذكره جورج بوش في هذا الفلم (6) ليس سوى تهديد ملفوف بصيغة التحذير لضرورات السياسة. إنه يتظاهر بتحذير العراق من الإرهاب و "اضطرار" الأمريكان للعودة إليه في ظروف أصعب، بينما هو يهدد بوضع العراق تحت سلطة القاعدة التي أسسوها وبقوا يدعمونها هي وكل الإرهاب الإسرائيلي المغلف بالغلاف الإسلامي، ويهدد بعودة القوات الأمريكية ثانية... إن أصر العراقيين والأمريكان على سحب قوات الإحتلال الأمريكية من العراق!

إن التبعية للسياسة الأمريكية الإسرائيلية ولوك الكلام عن "الدعم الأمريكي" و "الصداقة الأمريكية" وهم كبير خطير.. وهو المخدر الضروري لقيادة هادئة للبقرة العراقية إلى مذبحها، بسلاسل من الكوارث التي تتبع بعضها البعض. وإلى أن يصحو العراقيون على الكارثة الجديدة، وحقيقة الحكومة الجديدة ورئيسها ومهماتهما، تكون الحقائق على الأرض قد فرضت نفسها ووصلت مرحلة يعجزون فيها عن مقاومة السيل الجارف، ويكون الرئيس الجديد قد أُخرج بذات الطريقة التي أُخرج بها المالكي من قبله وأخرج بها الجعفري من قبلهما، وسيتظاهر العبادي كما يتظاهر المالكي وتظاهر البكر قبلهما، بالرضى بالتغيير وينشد الإعلام نسخة جديدة من انشودة "القائد سلم القائد أمانه"...وتستمر التراجيديا الكوميدية الأمريكية في العراق فصلاً آخر، وتغور مأساة الشعب العراقي في درك آخر من المذلة والألم وفقدان الأمل.


(3) علاوي ذلك القطار الطويل من الفضائح، من يمثل؟ (1)
http://almothaqaf.com/index.php/maqal/13215.html
(4) صائب خليل: علاوي، ذلك القطار الطويل من الفضائح(2)
(6) ملخص لما يجري في العراق الآن ... قاله الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش في مؤتمر صحفي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق