20‏/1‏/2015

الميدالية الذهبية في سباق "منتهى الوقاحة"



صائب خليل
20 كانون الثاني 2015

كقاعدة عامة، كنت عندما أقرأ مقالة كتبها واحد ممن اعتبرهم من عملاء أميركا الرسميين، يصيبني التوتر والغضب فأذهب لقضم شيء من الطعام لتفريغ غضبي، لذلك كنت أحاول تجنب أن أقرأ الكثير من تلك المقالات حرصاً على وزني. لكن تلك القاعدة لم تكن تخلو من الشواذ، فكانت بعض المقالات بدلا من الغضب، تثير الضحك. فمن تتطلب منه مهنته أن يمتدح ما لا يمكن امتداحه أو ذم ما يصعب ذمه، يضطر أحياناً إلى أن يتصرف كبلهوان يرقص على الكلمات، ومثل البهلوانات، لا تملك احياناً إلا أن تضحك منهم رغم كل ما في قلبك من مرار، ضحكة عميقة تبقى في الذاكرة طويلاً..

وينعكس ذلك على ردودي أيضاً، فبين عدد من الردود المتوترة، تأتي مقالة لي حيوية ومرحة مثل مقالتي عن الذيل الأمريكي الراحل شاكر النابلسي (يصعب علي أن اقول "المرحوم" فاعذروني على نحاستي) والتي رددت فيها على تفسيره كره العراقيين للإحتلال الأمريكي بنظرية مبتكرة هي "الحسد"، مفترضاً أن الإنسان السوي لا يمكن أن يكره احتلالاً! فكانت مقالتي "الأستاذ شاكر النابلسي ونظرية الحسد في تفسير التأريخ".(1)

ومن المقالات الأخرى التي بقيت في ذاكرتي طويلا لقوة النكتة في وقاحتها، إحدى مقالات الدكتور عبد الخالق حسين (وهو من الندرة من الكتاب الذين تبلغ جرأتهم امتداح ما لا يمتدح، ليس بوش فقط وإنما حتى "الكلب في حضن بوش" كما يسمي البريطانيون توني بلير) ويتصدى للدفاع حتى عن الموساد! هذه الجرأة لم تكن كافية دائماً عندما تكون المشكلة منطقية، فداخ عبد الخالق في كيف يدافع عن اميركا ويقنعنا بضروة صداقتها وإبقاء جنودها "اللطفاء" الذين يتمتعون بصيدنا كالديكة البرية، في ارضنا. وقد وجد بضعة أدوات ساعدته على مهمته الشاقة واستخدمها تكراراً في مقالاته مثل استعمال "البعث" باعتباره مصدر الشر الوحيد في العالم، او على الأقل في العراق، ومادامت أميركا قد خلصتنا منه فعلينا ان نصلي لها شاكرين مهما فعلت بعد ذلك. وعدا مقالة واحدة ناشزة عن الخط، فأني لا أذكر أن عبد الخالق وصف أميركا بعبارة أقسى من انها "ليست مؤسسة خيرية"! وفي هذا الوصف أيضاً دفاع ضمني أكثر مما فيه من نقد.

لكن أميركا وضعت عبد الخالق في أكثر من إحراج، وهي كثرما تفعل ذلك مع "اصدقاءها". كان عبد الخالق يحب عبد الكريم قاسم ويراه قائداً وطنياً كما يراه معظم العراقيين بشكل عام. والمشكلة التي كان على عبد الخالق أن يجد لها حلاً هي أنه لا يمكنه أن ينكر أن أميركا هي التي جائت بالبعث، والذي قتل عبد الكريم قاسم وكان المسؤول عن كل الخراب في العراق حتى اليوم! فكيف يفسر أن هذه الأميركا الرائعة هي التي جلبت للعراق "مصدر الشر" الذي يقول أن تخليصها لنا منه يغفر لها ما تقدم وما تأخر من الذنوب؟
وبلغ الموقف قمة الإحراج حين ذهبت أميركا للتفاوض مع البعث، وبالرغم من احتجاج رئيس الحكومة المنتخب بالديمقراطية التي جاءت بها أميركا، المالكي، الذي يكن له عبد الخالق الإحترام! والمشكلة أن أميركا لم تنكر ذلك، بل أكدت السفارة بوقاحة نادرة حينها بأنها تعتبر ذلك من حقها، لأنها ترى نفسها حسب الإتفاقية الأمنية، "مسؤولة عن أمن العراق"!

لا شيء يردع عبد الخالق، ولا مشكلة تقف أمام قدراته الإبتكارية البهلوانية، فانقلب على رأسه بقفزة واحدة وكتب مقالة يقول فيها "أننا يجب أن لا نتطير" من مفاوضة أميركا للبعث! و "نتطير" تشير إلى التخوف من شيء بلا أساس، أو على اساس خرافي ، سحري، كان يمارسه العرب في الجاهلية.. فالبعث الرهيب الذي يجب أن نصلي لأميركا لتخليصها لنا منه، صار فجأة، شيء لا مبرِرَ للخوف منه، أو على الأقل المفاوضات معه! وحين فشل ذلك المشروع الأمريكي في إعادة البعث أمام الإحتجاج العراقي الشديد، عادت السفارة لتكتب أنها لا تريد إعادة البعث أو لم تفاوض البعث، فتنفس عبد الخالق الصعداء وعاد ليكتب "لماذا حملة تبرئة البعث والقاعدة من الإرهاب في العراق؟"!

واجه عبد الخالق مشكلة أخرى ثابتة وهي أن مساعيه لإقناع العراقيين بأميركا، لم تأت بنتيجة بل أنها فضحته في كل مرة، وتحول النقاش دائماً إلى مسار غير الذي يرجوه الأمريكان أو "أصدقاءهم" عن التاريخ غير المشرّف للعلاقة العراقية الأمريكية. ولكن كانت هناك مشكلة اقتراب التصويت على مشروع معاهدة لإبقاء القوات الأمريكية، وكان من الضروري إقناع العراقينين أن الذئب صديق. أخترع عبد الخالق (أو ربما تم اختراع ذلك له ولغيره مركزياً، لأني رأيت نفس الحركة البهلوانية لدى بعض كتاب أميركا الآخرين ايضاً)، طريقة فذة ومنطقاً عجيباً يقول: "صحيح أن أميركا قد أضرت بالعراق كثيراً حين جاءت بالبعث اربع مرات (كما يقول بنفسه)، ولكن هذا لا يعني أننا يجب أن لا نبقيها في العراق، بل بالعكس! كيف يابا "بالعكس"؟ يقول د. عبد الخالق: "بالعكس...علينا أن نبقيها و "نجبرها" أن تتحمل "مسؤوليتها الأخلاقية" لإصلاح ما تسببت به من تدمير للعراق"!!

نضحك أم نغضب؟ أنا من ناحيتي ضحكت كما أذكر.. تخيلته يمسك بها ويسحبها من أذنها كطفلة وكيحة ويجبرها على "تحمل مسؤوليتها الأخلاقية" و "إصلاح ما خربته"! وما الذي يضمن لعبد الخالق أنها سوف "تتحمل مسؤوليتها الأخلاقية"؟ ومن قال له أنها لن تعيث بـ "وطنه" فساداً كما في المرات الأربعة السابقة؟ لا شيء طبعاً.. لكن عبد الخالق لا يبحث عن ضمانات لمصالح "وطنه" ولا كرامته عندما يتعلق الأمر بأميركا مهما ارتكبت من فضائح، لكنه يغضب لأن إسم معاهدة "سحب القوات" ليس لائقاً" بمعاملة محررينا، ولله في خلقه شؤون! ما الذي نفهمه من قول عبد الخالق، أو من اخترع له هذه التخريجة البهلوانية؟ ما نفهمه هو: يجب أن نجد أي شيء يستنتج منه ضرورة بقاءنا.. حتى لو تستغل سوء سمعتنا ذاتها لدى الناس! فكانت اختراع "نبقيهم لنضعهم أمام مسؤوليتهم الأخلاقية"!
لا شك أنكم تتفقون معي أن مثل هذه المهمة صعبة جداً، قد تضطر صاحبها إلى القيام بحركات بهلوانية مثيرة للضحك لإنجازها.
أطلت عليكم قليلاً، ولم اتحدث حتى الآن عن الجائزة، لكني أترك "المسك" كما تعلمون للختام.. والحقيقة أن ما سبق لم يكن إلا ذكريات، اثارها هذا "المِسك" الذي قرأته اليوم، لشدة التشابه في الهدف النهائي وعجابة الأسلوب للوصول إليه. هذا "المسك" هو مقالة عنوانها "الوحدة العراقية سلاح أميركا للأبقاء على نفوذها في العراق"!!(2)
العنوان وحده كما ترون يمكن أن يسبب عمى نفسي مؤقت، أو رجة دماغية متوسطة لمن لم يكن مستعداً لمثل هذه المفاجآت: "الوحدة العراقية" – "سلاح أمريكا" – "لنفوذها في العراق"؟ ؟؟؟

الكاتب هو السيد عبد الغني علي يحيى.. وهي ليست المرة الأولى التي يصدمني بها وهذا ما خفف الأثر. فقد قرأت له عدة مقالات في موقع برطلة ، قبل اصطدامي بعدد من كتاب الموقع المتفرغين لتشويه سمعة المسلمين، ونجحوا في تحويل الموقع إلى هراوة من هراوات الغرب لشيطنة كل ما هو مسلم، حيث أن أشد ما يثير هؤلاء كلمة "مسلم معتدل"، فكل مسلم يجب أن يكون مجنوناً بالضرورة بالنسبة لهم.
لكن عبد الغني كان متفرغاً لهدف آخر لا يقل "شرفاً": إقناع الناس بضرورة تقسيم العراق! وله "إبداعات" سابقة ليست سهلة مثل مقترحه باستبدال الجيش العراقي بجيش سني وآخر شيعي، وهو لا يتردد في أن يؤكد بكل جدية، بأن ذلك سيكون في مصلحة العراق!!

لكنه في مقالته الأخيرة هذه، فقد حطم كل المقاييس والأرقام القياسية بل حطم الحدود بين الضحك والبكاء، فهو يريد، وبكل جدية، أن يقنعنا ليس فقط أن هدف أميركا هو الحفاظ على وحدة العراق، التي هي بالضد من مصلحة العراقيين، وأكثر من ذلك، ان أميركا تريدها لأنها ضد مصلحة العراقيين!!

كيف وصل عبد الغني إلى فكرته المبدعة هذه؟ أتصور أنه نوع من ما يسمى "العصف التفكيري" الذي يجتمع خلاله عدد من الأعضاء، ويقرروا البحث عن فكرة جديدة، والقاعدة هي أنه يجب عدم الإعتراض على أي شيء مهما بدا غير منطقي، لأن "اللامنطق" مولد ممتاز للأفكار الجديدة. ثم بدأ أحدهم بقلب بضعة حقائق، مثل: "العراقيين يريدون وحدتهم" و "الأمريكان يريدون تفرقتهم" و "تفرقة العراقيين تفيد الأمريكان" و "العراقيين يقاومون مساعي الأمريكان لتفتيت بلادهم".. كلها أفكار منطقية ومعروفة، وكلها قلبت لتكون الفكرة العبقرية لـ عبد الغني..
أنظروا إليه يقول: "وتتقاطع اهداف أميركا مع اماني العراقيين بخصوص تقسيم العراق وتفكيكه" - هذه جملة تركت دون إجراء عملية القلب عليها، لكنها وضعت بصيغة غير واضحة (تتقاطع = تتعارض أم العكس؟ من الذي يتمنى التقسيم من الطرفين؟) لكي تكون مدخلا نفسياً يهيء للصدمات القادمة.. لكننا نفهم بعد بضعة كلمات أن عبد الغني يرى أن العراقيون يجلسون كل يوم يدعون الله أن يحقق “أمانيهم” و يوفقهم إلى تفكيك العراق وتقسيمه، لكن أمريكا الظالمة هي التي تمنعهم من تحقيق ذلك!! "فالقناعة لدى “العراقيين العقلاء والوطنيين الاصلاء” تقول ان خلاص العراقيين من المآسي والمحن يكمن في تقسيم العراق وليس في وحدته القسرية"!! هكذا تكلم عبد الغني علي يحيى!

هذا بالنسبة لقناعة العقلاء الوطنيين الأصلاء، أما القناعة لدينا نحن العراقيين "غير العقلاء وغير الوطنيين الذين تعود أصولهم إلى الفايكنك" فهي بالعكس: أن العراق يجب أن يبقى ولا يفكك!
للأسف أني كتبت كتابي "الجهود الأمريكية لتفكيك الدولة العراقية" قبل أن أقرأ هذه المقالة القيمة فكشفت في كتابي مدى جهلي وقلة أصالتي.

لكن لماذا تريد أميركا بقاء العراق واحداً؟ يقول عبد الغني: لأن تلك الوحدة "هي مطلب اميركي أستعماري"!! يا حول الله! وهذه نظرية جديدة في الإستعمار نسمع بها لأول مرة من استاذ عبد الغني! هل استعمال "الوحدة لغرض استعماري"، إبداع أمريكي جديد؟ أبداً فقد كانت أيضاً مطلباً بريطانياً إستعماريا أيضاً!!! آه كم خدعنا مؤرخونا قبل أن تأتي بنورك علينا ايها السيد عبد الغني! إستمر، لا فض فوك .. نورنا..!
العراقيين المساكين كانوا لجهلهم، حسب قول عبد الغني، لا يفقهون أن العثمانيين وحدهم كانوا يرفعون شعار "فرق تسد"..."من غير أن يعلموا ان الغرب ينتهج مبدأ (وحد تسد)"!! .. وهذا مبدأ سياسي جديد لم يخطر ببال شيطان!

عبد الغني بفكره المتقدم، يتجاهل بعض أسئلتنا الساذجة مثلاً عن "مشروع بايدن" لتقسيم العراق، فهل كان نائب الرئيس الأمريكي يعمل بالضد من الخطة الأمريكية؟ أم أنه نسى الخطة بسبب تأثير السفر وقلة النوم (الجت لاك)؟
وعبد الغني لا يقدم أدلة على ما يقول، فأفكاره ليست بحاجة إلى دليل، ومجرد أن يذكرها هو فذلك دليل على صحتها. فهو يكتب بعد ذلك مباشرة: "لما مر، يتبين أن الأميركان يرومون تحقيق تواجد دائم لهم في العراق، والذي لن يتم إلا عبر الأبقاء على الوحدة القسرية فيه.".. وبدون جدوى أن تحاول أن تبحث هذا الدليل الذي "مرّ" دون أن تنتبه، والذي "بين" حسب قول الكاتب أن بقاء الأمريكان لن يتم إلا بإبقاء الوحدة القسرية..." الخ..

ولكي لا تساورنا الشكوك أن عبد الغني عميل لأميركا، نقرأ: "ان المخطط الأميركي للأبقاء على الوحدة القسرية خلافاً لمصالح العراقيين".. وهو يؤكد أن مخطط إبقاء الوحدة هذا "عداء مكشوف وصريح لتطلعات العراقيين في تقسيم العراق"!! يا للهول.. تصوروا أننا لم نسمع حتى بـ "تطلعاتنا" فكيف سنلحق بالدول المتقدمة؟! وتخيلوا خيبتنا: أن الأمريكان يعادون تطلعاتنا للتقسيم بشكل "مكشوف" ولم يستطع أي منا أن يرى ذلك! ..وماذا أيضاً.. قول يا عبد الغني قول ونورنا لماذا نريد التخلص من "الوحدة القسرية"؟ لأنها ستساعدنا على "...التخلص من الحروب العنصرية ضد الكرد والطائفية ضد السنة وحروب ابادة بحق مكونات عرقية ودينية مثل المسيحيين والأيزيديين والصابئة والتركمان.".. ويبدو أنه لا توجد أية حروب ضد الشيعة، فلا شك إذن أن عبد الغني يرى أنهم هم من يقوم بكل تلك الحروب.. آها...
أما داعش.. فلا يجب أن يخدعنا الأمريكان بأنهم يحاربونه ولا كذلك الحشد الشعبي الداعي إلى الوحدة للقضاء عليه، "بل أن الحرب معه ستدخل أعواماً كثيرة إذا قدر للمخطط الأميركي النجاح. وابقي على الوحدة القسرية."... (دائماً "قسرية" كما ترون! كاد يدخلها في دماغي عنوة!)
الآن وقد فهمنا ورأينا "المكشوف" الذي عجزنا عن رؤيته سنيناً طويلة، وزالت "حماريتنا" ووعينا من الذي يريد أن يفرض علينا "الوحدة القسرية"، ما الذي يجب علينا أن نفعله الآن لنتخلص منها وممن يريدها لفرض الحروب الطائفية؟ عبد الغني لا يتخلى عنا هنا ويتركنا حائرين بعد أن كشف الجواهر المكنونة، فهو يرشدنا إلى طريق النجاة أيضاً فيقول: "ومن هذا الفهم على العراقيين التحرك بأتجاه معاكس للمطلب الأميركي الاستعماري ويفككوا الوحدة القسرية المفروضة عليهم والتي فرضها الأستعمار البريطاني ويواصل الأميركان فرضه الآن وبحماس."!!

واضح جداً وصريح و"شفاف"!.. دعوني أولاً أن أعرض عليكم صورة عبد الغني... هذا هو عبد الغني علي يحيى..

http://pukmedia.com/Wenekan_AR/3517121472013_67544.jpg

الرجل كما ترون في الصورة، ليس طفلاً صغيراً، وهو أنيق ومحترم ولا يبدو عليه أي خلل أو حب الهزل وخفة الدم، وهذا ما يزيد النكتة عنفاً ويجعل الضحك "يوجع البطن" حقاً...

دعونا نسأل ذات السؤال الذي وجهناه لمقالة عبد الخالق: ماذا يريد الرجل أن يقول؟ إنه يقول : "لا استطيع أن أقنعكم بعدم كراهية أميركا ولا بالموافقة على المشروع الأمريكي بتفتيت بلدكم، لحبكم لهذا البلد وكرهكم الشديد لأميركا وعدم ثقتكم بها وبكل من يمتدحها، فلم يبق لي إلا أن أقنعكم نفسياً ومن خلال تكرار الكلمة  مراراً، أن وحدتكم "قسرية"... ومن هذا الذي "يقسركم" على الوحدة؟ إنه الذي تكرهونه .. أميركا الإستعمارية ذاتها!!  وبما أن أميركا تريد وحدة العراق وتجبركم عليها فعلكيم أن تطالبوا بأنفسكم بتفتيت بلادكم!

سألني صديقي “إيمان” عندما كنا في الإعدادية يوماً، ولا أزال أذكر ذلك: ما هو أفضل تعريف لـ "منتهى الوقاحة"؟ وقبل أن أدوخ طويلاً بالبحث عن الجواب، أكمل بنفسه: "منتهى الوقاحة، هي حالة قاتل لأبيه وأمه، يطلب من المحكمة الرأفة به باعتباره يتيماً!"... ضحكت طويلا وعميقاً.. بعمق أتاح لهذا التعريف أن يستقر في ذاكرتي كل هذه العقود المضطربة من السنين دون أن ينمحي منه أي من حروفه الأصلية.. وخلال تلك الحياة راجعت التعريف مرات عديدة كلما مر بي خبر "وقح" (وما أكثرها..حتى صار لدي ملفاً خاصاً بأخبار الوقاحة ربما أكتب منه مقالة يوماً، أو ربما كتاب) لكن شيئاً لم ينافس ذلك التعريف الذي قدمه صديقي.
في ذلك الحين سألت نفسي: "كيف نقيس الوقاحة" لنعرف الأشد منها؟ فوجدت أن كل وقاحة تتضمن بالضرورة تصوراً عن غباء المقابل الذي يسمعها ويفترض أن يصدقها، واعتبرت إذن أن فرصة الفوز لصاحب العبارة المتنافسة على اللقب، يعتمد على مقدار ما يفترض ان مستمعه شديد الغباء ليصدق قوله، ووجدت ذلك مقياس ممتاز لدرجة الوقاحة.

وعندما قرأت نظرية الحسد في تفسير رفض العراقيين لقواعد الإحتلال الأمريكية، بدا صاحبها شاكر النابلسي، مرشحاً قوياً للقب صاحب "منتهى الوقاحة". لكني عندما قرأت فكرة الدكتور عبد الخالق حسين عن ضرورة إبقاء أميركا في العراق لإجبارها على "تحمل مسؤوليتها الأخلاقية" وجدت فيها كمية "وقاحة" أكبر وكانت مثيرة للإعجاب والدهشة.
أما حين متعت بصري بأفكار عبد الغني بضرورة أن يحطم العراقيون بلادهم ويفككوا "وحدتها القسرية" بالعناد من أميركا وللتخلص من استعمارها الذي يستخدم تكنيك "وحد تسد!"، فقد حطم هذا الرجل كل الأرقام القياسية، وترك النابلسي وعبد الخالق في هذا السباق "في العجاج" كما يقولون...

ولأنه حقق هذا الإنتصار الكبير في وقاحة الضحك على ذقوننا وأبلى بلاءاً حسناً في اعتبارنا بلهاء إلى هذه الدرجة التي تفوق كل ما يمكن ان يصل إليه خيالنا المحدود، ودون أن يرتجف له رمش من خشية الرد، فقد قررت إكرامه بهذه المقالة التي استحقها عن جدارة، وتعريف العراقيين بالمواهب الدفينة التي لديهم. وإن كان احدكم قد سمع بوقاحة أكبر من هذه فيرجى منه المسارعة بإخبارنا، وإلا فاسمحوا لي باسمكم وبلا تردد أو حرج، أن أمنح السيد عبد الغني علي يحيى، الميدالية الذهبية لمنتهى الوقاحة...والصلافة أيضاً!  


هناك 3 تعليقات:

  1. دمت كاتباً متأَلقاً تدافع عن قضايا الوطنية. تقديري و احترامي لجنابكم.
    محمد جواد سنبه
    بغداد - العراق

    ردحذف
  2. لقد استحقها بكل جدارة

    ردحذف
  3. رروعه استادنا العزيز

    ردحذف